عن قراءة بروست في الحجر الصحي.

في ألبرتين المفقودة، يحكي مارسيل بروست في ثلاث صفحات عن الإثارة التي انتابته بعد أن وجد على صفحات جريدة لوفيغارو مقالا من تأليفه. يحكي بروست عن هذا بمكر, واصفا بذلك، في البداية كيف يقلب صفحات الجريدة، ثم العثور على النص الذي يحمل نفس العنوان الذي أرسله، ثم يتحدث عن النص ذاته، و في الأخير عن التوقيع. يتحدث أيضا عن الفرح الساذج الذي يتخيله، وهو يعتري هؤلاء الذين يقرأون مقاله. إدراكهم للنص الذي كتبه كما لو كان يعود لشخص آخر. كما يتحدث عن تلك المتعة في تخيل القراء وهم يقرأون المقالة سطرا بسطر. وحلمه بما سيقولونه هؤلاء القراء لبعضهم البعض، والتساؤل أيضا كيف سيحاكمون فكره.


هل هناك فكر لمارسيل بروست؟ هل هناك فلسفة بروستية؟

لا زلنا نحتفظ باهتمامنا بذلك الطول المدهش للجمل، وأيضا ببساطتها. نكتشف من خلالها الطرافة، المكر، وروح النكتة. مثلما نجد في هذا المقطع، حيث يتحدث الراوي عن مقاله، عن الشعور الذي عاشه وهو يقرأه. عن انفعالاته المرحة بخصوص الكيفية التي سيقرأه بها الآخرون. نرى إلى أي حد كان بروست خبيرا بالروح الإنسانية. إلى أي درجة عرف كيف يتتبع كل التحركات، وتحليل كل المشاعر: الرغبة، الحب، الغيرة، الذكرى، النسيان… كم من فرصة نحصل عليها في حياتنا لقراءة بروست؟ يجب علينا فعلها في زمن الانسحاب هذا. ليس فقط لأنه كان ابن عالم أوبئة كبير ومبتكر معاصر للحجر الصحي ومنتجعات الحجر البحرية أو لأن عمله الأدبي كان مكتوبا إبان ما يشبه الحجر. 


لقد كان بروست لا يفارق بيته، يعيش مترهبنا. فقط أثناء الليل يقوم ببعض الجولات الليلية القليلة.


هل كان مارسيل بروست فيلسوفا؟ كان هذا السؤال يشكل جدلا واسعا في الماضي. سارتر سنة 1938 يكتب بازدراء: علم النفس عند بروست؟ إنه ليس علم النفس عند برغسون. إنه علم نفس ريبو Ribot.


تيودور ريبو خريج مدرسة إعداد المعلمين، وأول عالم نفس وفيلسوف يعالج الذاكرة على أنها حالة بيولوجية. أما بخصوص برغسون، لم يحب بروست كثيرا أن يربط اسمه باسم زوج قريبته. أو أن نقول بأن رواياته انعكاس لفلسفة برغسون. الاثنان معا قدما مقاربة للزمن، تتمظهر في أجزاء متناثرة. غير أن بروست يذهب بعيدا جدا في رسم فينومينولوجيا لكل مختلف الأحاسيس والمشاعر: من الحنان، والعزلة، والاختفاء، والغياب، والموت، والقطيعة، والتخلي، إلى الفراق.

يصور ليفيناس بروست بمنزلة فرويد وبرغسون. حيث كتب مدحا جميلا عن الروائي، الذي يقدم درسا عميقا من خلال تكوينه لسرد روائي يصف انفعالات الحياة الباطنية للفضول النهم تجاه الغير. ليفيناس اهتم ببروست قبل موريس بلانشو. أعاد قراءته وهو أسير في مخيم السجناء قرب هانوفر. إضافة إلى ذلك، بروست هو الأكثر اقتباسا في دفاتر ليفيناس بجانب، بلوي، جيد ، وبرغسون بالأخص. حيث كتب ليفيناس: «عند بروست، الأحاسيس يتم التفكير بها. ليس فقط مشاعره هو، بل مشاعر الآخرين» تحت الحجر هو الآخر داخل سجن لأسرى الحرب، وجد ليفيناس نفسه منفيا في التفكير بأعمال الروائي الخاص بالحجر الصحي بامتياز.


بالنسبة لبروست، الحجر اختياري، إنه يعيش متعة خاصة في هذه العزلة المبتغاة، فهو يحتاج إلى الصمت، الانسحاب، والعزلة، من أجل عمله الأدبي. في نفس الوقت، عليه الزحف فوق سجنه هذا. والخروج من غرفته عندما يريد عيش دور الشخص الليلي الذي كان عليه، والذي لم يكن دورا ساذجا.

منظر الحجر الصحي؟ مفكر في ما يخص المرء بنفسه؟ فيلسوف البقاء في البيت؟ نعم، هناك قليل من هذا كله.


جيرار بنسيسان Bensussan الذي نشر لدى جارنيي  Garnier كتابا عن فلسفة بروست عنوانه ” كتابة اللا-إرادي” والذي يقول فيه يجب قراءة بروست لأن عمله يحفز القراء على “إمكانية قراءة أنفسهم”.


أقتبس جملة من المراسلات التي تتحدث عن الحرب أكثر منها عن الحب : «الحدث هو الذي يحدد المشروع» إنها لحقيقة كون هذا الرجل كان صائغا لسيكولوجيتنا البشرية. والذي لا يشير في آلاف الصفحات من روايته البحث عن الزمن المفقود سوى لحدثين مهمين بالنسبة له: قضية دريفوس، والحرب العالمية الأولى. هذا إذا تركنا بشكل طبيعي الحدث الأكثر أهمية بالنسبة له، وهو لقاء إنسان آخر.


كتب بروست يقول: «العدو لا يعرف عن خططنا أكثر مما نعرفه نحن عن الهدف المتبع من طرف النساء اللواتي نحب»


كلمة أخرى عن ألبرتين المفقودة، التي نجد فيها جملا تتركنا نحلم منبهرين. جمل كتبها رجل نشأ في وسط طبي (بجانب والده، أخوه كان طبيبا أيضا).. يقول بروست: ” الطبيعة لا تبدو قادرة سوى على منح أمراض قصيرة المدى، لكن الطب يمنح فن تمديدها “

مقال نشره الكاتب الفرنسي سالومون مالكا Malka
على جريدة لوفيغارو تحت عنوان: Marcel Proust est le romancier par excellence du confinement
يوم 27-4-2020

ترجمة الرفيق المفقود مهدي لعرش من الفرنسية.

رأيان حول “عن قراءة بروست في الحجر الصحي.

إياك أن تفعلها . .