– قراءات هائمة:11.

( ١ )

رسالة بتاريخ

28 كانون الثاني 1944

الجمعة.

إنه يوم الجمعة! ومنذ متى أصل إلى هذه النقطة بأن لا أملك شيئاً فيكِ ولا مخابرة تلفونية؟ ولا حتى كلمة، أو إشارة أو علامة، لا شيء! وأنا أمضي هنا أياماً صعبة، وفي ظروف هي الأصعب حتى الآن!

لا أستطيع أن أصدق هذا، لا أستطيع أن أتخيّل أنكِ لم تتخيلي على الأقل لحظة من هذه الأيام الصعبة: هذا ما أفكّر به وأتساءل عنكِ في قلبي.

كتبت بقلم الرصاص لأنني تأمّلت بإجابة منكِ هذا الصباح. وأخيراً اتصلت، وكنتِ خرجت للتسوّق. لا يمكن أن تتخيّلي ما حالة دماغي في هذه المرحلة. في البداية، بالتأكيد، شعرت بالمحاصرة ومن ثم بالخوف الشديد. ثم قمت بقراءات طويلة ومن دون نوم وهذا السرير الذي يؤلمني، وهذه الأفكار التي تشغلني، وأطلق على نفسي أحكاماً من البعيد ومن فوق… مع أنني كنت أمتلك “اوبالينوس”. وها أنا أعجب بنفسي وعلى طريقتي وتساءلت بفخر: مَن، في هذه الايام، يستطيع أن يكتب هذا الحوار حول الذكاء المترفّع؟ حيث ليس من مكان لأي طلب مساعدة من الفلسفة أو من الامور المتعلقة بالإيمان.. كل شيء مني أنا.

ستُفهم هذه الامور بعد فترة ولكنني لا أمتلك الثقة بمستقبل الفكر في نهاية المطاف، لا يهمني هذا الأمر. لا أعرف لماذا أقول لكِ كل هذا إنها ريشة قلمي! أو أنها المرارة، أو هو التعب الذي يتكلم نيابةً عني. لقد ناديتكِ طويلاً لكنكِ لم تأتِ. كل هذه الأمور لا تهمكِ.

بول فاليري

( ٢ )

شخص هناك، ممدد تحت الشمس، كلا، ليس تماماً. هو تحت شجرة ضخمة، الساقان والقدمان مستسلمة للشمس، والرأس، وهو رأس حالم، في الظل. انه راع، نصفه ممدد في الشمس، ونصفه الآخر في الظل، مواشيه التي ليست بعيدة عنه ترعى، فهو يستطيع بسلام أن يتركها لنفسها. هو إذاً ممدد ولا يعرف كثيراً ما يفكر فيه. يمكن أن يفكر في كل شيء، وهو غير مجبر على التفكير في أي شيء. يفكر أحياناً بهذا، وأخرى بذاك وأخرى في شيء، وتارة بآخر. تذهب الأفكار وتجيء، تظهر لفكره ولا تلبث أن تتبدد من جديد. تتجمع وتتبعثر، تتجمع لتشكل كلاً كبيراً ثم تتحلل في جزئيات. لهذا الممدد هناك الوقت ليفكر، والوقت لكيلا يفكر، أن يصبح خاملاً. مهما كان العمل جميلاً ومفيداً، فكر هو أكثر، وأجمل أن يعمل الانسان شيئاً، يقضي النهار شارداً، وان يبدو كهذا الذي ينام هناك، تحت الشجرة الضخمة أتراه نائماً؟ آه، من وقت الى آخر نتصور نحن، نشوة وتعباً، يغتبط بفرح خالص بالوجود، الأهداب تنسدل، حواسه تتراخى، وينعس في اللاوعي اللذيذ. عذب النوم، لكن استيقاظته هادئة وجميلة. هكذا ينام تارة، وتارة يستفيق، شبيه الهواء الذي يعبر فيه مستوى الخضرة، يرحل، يطير، ويقضي ساعات، أربع ساعات، خمس ساعات، ست ساعات أو سبعاً، ثم وشيئاً فشيئاً، يهبط المساء، والقمة الناعمة المذهبة تنزل من السماء وتحلق فوق الأرض.

أيها الراعي، أيها الراعي، الذي، حالماً يمضي وقته، أأنت سعيد؟ نعم، طبعاً أنت سعيد. الأفكار السود أنت لا تعرفها، ولا تريد أن تعرفها. ترى، أتراودك فكرة بشعة، أتنام على الجنب الآخر، أو تمسك بالآلة التي ترافقك، وتعزف دائماً الموسيقى ومن ثم فرحة الشمس تجاورك من جديد. فلندعه هكذا نائماً، وليس لأحد أن يقلق عليه. هو لا يقلق من أي شيء.

روبرت ولزر – ت: بول شاوول

( ٣ )

إن قسوة الحياة تؤدي الى ولادة “الخير” في القلوب العظيمة. لاحقا تسعى هذه القلوب الى إعادة هذا “الخير” الى الحياة مرة أخرى، على أمل أن تجعل الحياة تتوافق مع ما تعنيه صورة “الخير” لديها. ولكن الحياة لا تتغير وفق تصوراتنا عن “الخير”. بل أن ما يحدث هو أن رؤيتنا للخير تغرق في مستنقع الحياة، فتفقد سمتها الكونية، وتنقسم الى شظايا مبعثرة، يتم استغلال بعضها وفق ما يتطلبه الوضع الراهن. إن الناس تخطئ في رؤيتها للحياة كصراع بين الخير والشر. فهؤلاء الراغبين في تحقيق كل الخير للإنسانية، هم في نفس الوقت غير قادرين على زحزحة الشر بمثقال ذرة.

قد شهدت بعيني ولادة الجبروت الذي لا يقهر لفكرة “خير المجتمع” في بلادي. رأيت كيف يتم الصراع من أجل هذا “الخير” خلال مرحلة تشكيل “التعاونيات”, ورأيتها في عام 1937. لقد شهدت كيف تمت إبادة الناس باسم فكرة تحمل كل نقاوة وإنسانية المثل العليا للمسيحية. رأيت قرى بأكملها تموت من الجوع، وشاهدت أطفال الفلاحين يموتون في ثلوج سيبيريا. رأيت قطارات متجهة الى سيبيريا محملة بالمئات والآلاف من رجال ونساء من موسكو، لينينغراد ومن كل مدينة روسية. جميعهم اعتبروا أعداء للفكرة العظيمة البراقة عن “الخير الاجتماعي” على الرغم من نبل هذه الفكرة، الا أنها قتلت البعض بلا رحمة، وشلت حياة البعض الآخر، وفرقت بين الأزواج وأبعدت الأطفال عن ذويهم.

ذات مرة، وبينما كنت أعيش في غابات الشمال، اعتقدت بأن “الخير” لن يوجد في الإنسان أو في عالم الحيوانات المفترسة، أو الحشرات، بل في المملكة الصامتة للأشجار. كم كنت مخطأ في ذلك الاعتقاد! لقد رأيت الغابة وهي تتحرك ببطء وبغدر ضد كل بوصة من تربة الأعشاب والحشائش. في البداية تطير ملايين البذور في الهواء لتتبرعم وتنمو بسرعة، مدمرة كل ما يقف حجرة عثرة في طريقها من الأغصان الكثيفة. ثم تبدأ الحرب الطاحنة بين ملايين الأغصان ضد بعضها البعض، ولا ينجو من هذه الحرب الشعواء إلا من يتمكن من يدخل في تحالف مع الأغصان المتسقة مع بعضها البعض ليبنوا بسلاسة المظلة المقببة للغابة الشابة، ولكن السريعة الزوال. تحت هذه القبة، تتجمد أخشاب الزان والصنوبر حتى الموت وهي تغرق في غسق عبودية الأشغال الشاقة. مع مرور الزمن يبدأ تساقط أوراق الأشجار معلنا شيخوخة أشجار الصنوبر الثقيلة، لتنهار بكل ثقلها على الأرض مدمرة شجيرات جار الماء وأخشاب الزان. هذه هي حياة الغابة – صراع دائم من قبل الجميع ضد الكل. فقط الأعمى هو من يمكنه أن يعتقد أن مملكة الأشجار والأغصان هي موطن “الخير”.. ألا يعني ذلك أن الحياة بذاتها هي “شر”؟

فاسيلي غروسمان | الحياة والقدر | ت: محمد ديتو

( ٤ )

كانت سيدة ثرية تعيش وحدها في شقتها المؤلفة من خمس غرف. أقول «سيدة»، على الرغم من أن المرأة المسكينة، لا تستحق إطلاقاً اسم «سيدة» كانت تهمل ملبسها، والجيران يلصقون بها ألقاباً مثل «الساحرة المتشردة». لم تكن تولي نفسها أي قيمة ولم يكن عندها متعة التمتع بالحياة وحتى أنها لم تكن تستحم، ومع هذا ما كانت ترتدي سوى أثواب رثة قديمة، بقدر ما كانت ترتاح الى إهمال شخصها. كانت ثرية، وكان في مقدورها أن تعيش كأميرة، لكن لم يكن عندها وقت لتضيعه، ولا ذائقة الترف. وعلى قدر ما كانت غنية كانت بائسة. كان عليها أن تقضي نهاراتها ولياليها وحيدة. رفيقتها الوحيدة كانت خادمتها القديمة ايما. كانت على علاقة سيئة بعائلتها. وحدها فرو ستامبنونا، زوجة مدير الشرطة تقوم بزيارتها، زيارات متباعدة، وإلا لا أحد. كانت ترد الناس لأنها تعيش كالمتسولة، وكانوا يعاملونها كبخيلة. وهي بالفعل بخيلة. البخل بات شغفها. لم يكن لديها أولاد. وهكذا صار البخل ولدها. والبخل ليس ولداً جميلاً أو طيباً. لكن على الانسان أن يكون لديه شيء يحبه ويُدلّله. وغالباً ما كانت السيدة الغنية، في صمت الليل، تذرف دمعاً في منديلها، وهي في غرفتها بلا فرح. فالدموع التي تذرفها كانت ربما الشيء الأكثر صدقاً التي تمتلكه، والأكثر قرباً منها. ما عدا، هذه الدموع، كان الجميع يكرهها ويخونها. الحزن الذي كانت تحمله في نفسها كان الصديق الوحيد لديها. عدا ذلك لم يكن عندها صديق ولا صديقة، ولا ابن ولا ابنة. صالونها لم يكن صالوناً، بل مكتب مكتظ بأوراق العمل، وفي غرفة نومها تتربع الخزانة المدرعة بالفولاذ، المليئة بالذهب والمجوهرات. حقيقة، انها غرفة نوم غريبة وكئيبة بالنسبة الى امرأة.

تعرفت بهذه المرأة، وأثارت فيَّ اهتماماً ملحوظاً. رويت لها حياتي وروت لي حياتها. وماتت بعدها بقليل.. تركت وراءها عدة ملايين.. تهافت الورثة على الإرث. مليونيرة مسكينة! كان في المدينة التي تقطنها الكثير من الأولاد الصغار الفقراء ليس عندهم حتى ما يسدون به جوعهم. في أي عالم غريب نعيش؟

روبرت ولزر – ت: بول شاوول

( ٥ )

إن كان العدو الأجنبي هو الحاضر الغائب في صور الشعراء فالعدو القريب والداخلي هو الاخطر، فمن يخدم الافغان، ويسهل تسليم الافغان لارسالهم الى غوانتانامو، ومن يسرقون الاموال والفاسدون هم أعداء الشعب. ولعل قصيدة مطيع الله شرشاوال تعبير ساخر عن هؤلاء العملاء، ففي قصيدة ‘ كم هو عدد المنظمات غير الحكومية؟’ والتي يسرق عملاء الاجنبي اموالها، وتلمح القصيدة الى ان كل من يعمل في كابول هو عميل، وهذا لا يكتفي بنفسه بل يشغل جماعته واقاربه وعندما تتقدم بنت الى العمل تحصل على تأشيرة سريعة، لا يعملون ويضيعون الوقت ويملأون جيوبهم بالأموال. ونلاحظ في القصيدة لازمة ‘كم هو عدد المنظمات الغير الحكومية’، ‘يضيعون اوقاتهم، يجلسون في مكاتبهم لا يفعلون شيئا’، ‘رواتبهم أكبر من رواتب الوزراء’ ثم اللازمة ‘من لا واسطة معهم منسيون’، ‘وعندما تذهب للمقابلة (من اجل وظيفة) يطلبون منك واسطة’، ‘عندما تشغر وظيفة يفضلون الاولاد’، ‘وان تقدمت فتاة يقبلونها بدون مقابلة’، ‘ النساء كثيرات والرجال قلة’، ‘كل الرجال الذين يختلفون مع الحكومة يعملون في المنظمات غير الحكومية’، ‘ السبب هو الدولار’. ويحضر الدولار كثيرا في قصيدة طالبان، لأنه عنوان العمالة والفساد، فالزمن الافغاني الجديد هو ‘وقت الدولارات’ كما في قصيدة زاهد الرحمن مخلص ‘استغرب من زمن الدولارات’ ويربط الوضع بالدم المسلم النازف في كل مكان من العالم الاسلامي ويقول انه فقد اصدقاء كثرا لأنه فقير وهم اغتنوا، وان تكون فقيرا في هذه الاوقات سبة، وعلامة على الاهانة.

أشعار طالبان: «شعرية عالية وانسانية عن الحرية والحب» | ابراهيم درويش.

( ٦ )

يكمن الفرق بين الرواية الإيرانية والعربية في أسلوب السرد عند الإيرانيين. الرواية الايرانية معقدة قياساً إلى الرواية العربية التي تميل إلى السرد المباشر، كما أن الزمان في الرواية الفارسية مشتت، كالزجاج الناثر؛ أي على القارئ أن يحل الأحجية ويفكر فيها.. والرواية الفارسية الحديثة، كما أسلفنا، تنتقد الآلية السياسية للحكومة… وفي وقت تبتعد الرواية الغربية عن الواقعية الخارجية لتلجأ إلى الذهنية المتطرفة من دون تقبل أي مسؤولية أو أي دور للإصلاح، يتعهد الروائي الإيراني بإصلاح الوضع ولو عن طريق السخرية كونه يحس بالمسؤولية الاجتماعية والأيديولوجية. ومن أهم ما يستهدفه الكُتَّاب في إيران، مبحث التقاليد والحداثة في قالب النقاش والصراع بين الأبناء والآباء “پدران وپسران” وكذلك القيم الأخلاقية السائدة. بعبارة أخرى فإن الروائيين الجدد خرجوا من عباءة صادق هدايت ويتبعون مساره، ولكن في طرح جديد.

غسان حمدان | السلام الأدبي بين إيران والعرب.

( ٧ )

أحسّ أني خسرت عمري كله، كان عليَّ أن أعرف أقل بكثير من خبرة السبعة والعشرين عاما ً، لعلّ السبب يكمن في أن حياتي لم تكن مضيئة، فالحب، وزواجي المضحك في السادسة عشرة زلزلا أركان حياتي. على الدوام لم يكن لي مرشد، لم يربّني أحد فكرياً وروحيا. كل ما لدي هو مني، وكل ما لم أحصل عليه كان بمقدوري امتلاكه لولا انحرافي وعدم معرفتي لنفسي. عراقيل الحياة منعتني من الوصول لكنني أريد أن‏ أبدأ.

من حوار مع شاعرة ايرانية شهيرة.

( ٨ )

كانت السمة الأبرز لأبطال أفلام محمد خان أنهم رومانسيون لا يستطيعوا التكيف مع واقعهم الذي لا يشبههم بل يضغط عليهم، وأنهم يعيشون في صراع بين شخصياتهم بأحلامها وبراءتها وبين واقعهم المادي فيشعرون بعدم الانتماء له، هذا الواقع هو واقع فترة الثمانينيات والتسعينيات بعد عصر الانفتاح والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع، وهذا الصراع هو صراع بين العاطفة والمادة.

من دراسة لفرح شوقي بعنوان «السينما وتحولات المجتمع المصري في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين: قراءة في مجموعة من أفلام المخرج محمد خان»

( ٩ )

ذات صباح، كان فرانز كافكا مع صديق يُطلان من نافذة بيته في براغ العاصمة التشيكية، من تلك النافذة المشرعة على ساحة المدينة العتيقة لمسقط رأسه، أشار إلى مدرسته القديمة حيث أنهى دراسته الثانوية، وإلى الجامعة التي درس بها الحقوق والمبنى الذي كانت توجد به مكتبة، ثمَّ بعد قليل، رسم بإصبعه في الهواء دائرة ليست بالكبيرة، وقال لرفيقه: «هذه الحلقة الصغيرة تشمل كل حياتي».

قول لويس غروس: كانت الفتيات عند فرانز كافكا، على ما يظهر، وسيلة شائقة للهرب من تأثير سلطوية الأب، ذاك القاسي والبغيض، هيرمان كافكا، الذي كان يحتقر موهبة ابنه الأدبية. فقد بحث الكاتب في العالم الأنثوي عن قوة موازنة للفحولة الأبوية المستبدة. إلا أن هذا الأب قد ساهم لاإرادياً في تشكيل نتاج أدبي وُظّف على الدوام في مواجهة القيود التي كانت الأقدار تفرضها عليه. كان كافكا يحسُّ دائماً بأنه وحيد، ومذنب من دون حتى أن يعرف ما هي أخطاؤه، مُنتظراً عقوبات رهيبة على ذنوب كان عليه في نهاية المطاف أن يرتكبها، ليبرّر لاحقاً، تلك السياط التي لا مفرَّ منها. إن نظرته إلى نفسه تشي بإحساس خذلان لا يخلو من التبجح. ويتجلى هذا الأمر أكثر عندما يقارن نفسه بالأشخاص الذين يُفترض أنهم واثقون وسعداء ومحققون لذواتهم.

بعد وفاة فرانز كافكا بثلاثة أيام نُشر في جريدة “ناردوني ليستي” نعيٌ له بتوقيع ميلينا جاسينسكا في السادس من يونيو/حزيران 1924 ولا يمكننا أن نسمّي هذا النص نعياً بحال من الأحوال أو نسميه إعلاناً في صفحة الوفيات. ذلك أن الأمر يتعلق بنصِّ أكثر انفعالية وتأثيراً بين كل النصوص التي كُتبت عن حياة كافكا وأعماله. ولأهمية النص نورده كاملاً كما كتبته صديقته أو حبيبته ميلينا والتي تعرَّف إليها في بداية سنة 1920 ونشأت بينهما علاقة حميمة، مترعة بالأمل والسعادة بداية، ولكنها أصبحت بائسة فيما بعد. دامت هذه العلاقة سنتين. وفي أول أيام الحرب العالمية الثانية أُلقي القبض على ميلينا في براغ، ثمَّ اغتالها النازيون في أحد معسكرات الاعتقال. تقول في نص نعي فرانز كافكا “لقد توفى قبل أمس، فرانز كافكا، كاتب ألماني كان يعيش في براغ، بمشفى كيراينغ كلوستيرنيبرغ قرب العاصمة النمساوية فيينا. قلَّة من الناس من يعرفونه هنا. لأنه كان رجلاً منعزلاً، رجلاً حكيماً يهاب الحياة. عانى لسنوات طويلة من مرض رئوي، مع أنه كان يتلقّى العلاج، إلا أنه كان يغذي مرضه متعمداً، ويشجعه نفسياً. وقد كتب ذات مرة في إحدى رسائله “عندما يعجز كلٌّ من القلب والروح عن تحمُّل العبء، تأخذ الرئتان النصف، وهكذا يصبح الحمل موزعاً بالتساوي”. وكان هذا هو الموقف الذي اتخذه من مرضه. كانت له حساسية تقارب الإعجاز، ونقاء أخلاقي صارم إلى أبعد حد.

إلا أنه جعل مرضه يتحمل عبء خوفه من الحياة. كان خجولاً، ولطيفاً وطيباً. لكنَّ الكتب التي كتبها كانت قاسية وموجعة، كان يرى عالماً مملوءاً بشياطين لا مرئية تحارب الأشخاص الضعفاء وتدمّرهم. كان صافي الذهن، أحكَم من أن يعيش، وأضعفَ من أن يقاوم. ولكن ضعفه هو ضعف أولئك الأشخاص المرهفين والنبلاء الذين يعجزون عن مواجهة الخوف وسوء الفهم وعدم التقدير والخداع. أولئك الأشخاص الذين يعترفون بضعفهم منذ البداية، ويستسلمون وهكذا يُخجلون الذي ينتصر عليهم. كان يفهم أقرانه بطريقة متاحة فقط لأولئك الذين يعيشون في عزلة، ويملكون إدراكاً حسياً دقيقاً للغاية، لدرجة أنهم يستطيعون قراءة رجل بكامله من خلال تعبيرات وجهه الخاطفة. كانت معرفته بالحياة واسعة وعميقة. كان هو في حدِّ ذاته عالماً واسعاً وعميقاً.

عبد الرزاق دحنون | ما لا يُدرك: النساء في حياة فرانز كافكا.

( ١٠ )

في بحثها: «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟»  (Can th Subaltern Speak) تطرح سبيفاك سؤالًا جوهريًّا «هل توافرت السياقات الثقافية المواتية للتابع كي يتكلم؟ هل يتمكن من الحديث كي يسمع صوته؟ ويمكن متابعة هذه المسألة من طريق مثال “ساتي” (Sati) وهو طقس هندوسي تقوم فيه الأرملة برمي نفسها في محرقة زوجها؛ وهذا التقليد الهندوسي يساعد على فهم ما تطلق عليه سبيفاك «العزل المضاعف» للمرأة في الهند، وأن هذا الطقس الهندوسي منظّم بواسطة العادات الأبوية في الهند، والقانون البريطاني الاستعماري. فالوطنيون الهنود الذين يستندون إلى النظام الأبوي يؤسسون خطابًا، يرون فيه أن المرأة نفسها هي التي ترغب في أن تموت، في حين أن البريطانيين شرعوا قانون منع هذا الطقس عام 1929م أثناء انتدابهم للهند. كانوا يؤسسون تشريعهم هذا على أساس ينطلق من مفهوم التحضر الشامل؛ ولذلك فإن صوت المرأة يغيب في كلا الموقفين: الموقف الاستعماري، والموقف الأبوي. وتصل سبيفاك إلى نتيجة مهمة في فهم تاريخ «ساتي» تتمثل في أنه “تاريخ للقمع المضاعف وسرد يقوم على المرأة المهمشة والتابعة”

من خلال قيامهن بطقس (ساتي)، تعبر النساء المهمشات من الهندوس عن صوتهن، صوت نعتبره اليوم غير مفهوم وغير منطقي. فثمة تضافر بين الهيمنات الكبرى للنصوص الدينية الهندوسية المشجعة على حرق المرأة، وبين فكرة تبعية المرأة للرجل بفعل هيمنة الثقافة الذكورية، ثم هيمنة الأبوية، والهيمنة الاستعمارية، وما دام الصوت تابعًا؛ وهو هنا المرأة التي وجدت أن فكرة الحرق تعبير عن الوفاء ، فهو -إذن- صوتٌ صامتٌ ومحكومٌ بالفشل؛ لأن قوة المتبوعين سواء كانوا تقاليد دينية، أو ثقافة أبوية، أو ثقافة استعمارية، تحول دون انبثاق صوت التابع، ولكنها تقترح حلًّا لا يقف أمام هذه النهاية، يتمثل في استعادة وعي التابع عبر صوت المثقف المنبثق من صلب الجماعة، لكي ينوب عنها في التعبير، لكن ذلك -في حد ذاته- يعيدنا إلى فكرة التمثيل، بما فيها التي طرحها ماركس حول عجز الشرقيين عن تمثيل أنفسهم.

درس فرانز فانون العلاقة بين المستعمر والمستعمر ومنتجات العنصرية والدونية والفوقية البيضاء معتمدا على النظرية النفسية التحليلية لفهم الإحساس الصدامي للوضاعة أو النقص، الذي يحل على ضحايا الافتراضات العنصرية للقوى الاستعمارية المهيمنة. لقد فهم فانون بأن نهاية الاستعمار لا تعني نهاية الكولونيالية، فالعلاقة الموجودة بين المستعمر والمستعمر لا تختزل في الأبعاد المادية لأنها تنبني على حالة نفسانية وتقتضي أدوات تحليلية مختلفة فخروج المستعمر من الأرض دون خروجه من الذات لا يمثل سوى إعادة إنتاج لصيرورة كولونيالية يكتنفها الاستلاب (وحيد بن بوعزيز جدل الثقافة مقالات في الآخرية والكولونيالية والديكولونيالية، دار ميم للنشر الطبعة الأولى 2018 ص 31). فالاستعمار حسب فانون ليس آلة مفكرة ولا خطابًا يتم تفكيكه، ولكنه عنف هائج وقوة عمياء، وإذا كان من تعريف يمكن تقديمه للاستعمار فهو أنه اختراق عنيف لكل أوجه الحياة في المستعمرة؛ اختراقٌ للثقافة والقيم والموارد، إنه نفي منظم  للآخر من حيث هو قرار صارم بإنكار أيّ صفة إنسانية للآخر. لذلك شكل التحرر البراديغم الغالب على تفكير فرانز فانون، وعلى غرار نقاد ما بعد الكولونياليية وجّه فانون  نقدا للفعل الكولونيالي ومنظريه الذين حوّلوا المعرفة إلى أداة للسيطرة في السياق الاستعماري. فلا شيء غير العنف يمكن أن يُعرّف المستعمِر ويحلل فاعليته فمحو الاستعمار هو حدث عنيف دائما (نفس المرجع ص 39)، ويعطي فانون للعنف مضامين أخرى نفسية تتمثل في اتخاذ العنف وسيلة لتطهير النفس من السموم وتخليص المستعمَر من مركب النقص الموجود لديه، باعتباره غير قادر على ممارسة العنف على غرار المستعمِر، بل ويعتبر فانون العنف منسجمًا وطبيعة الأشياء، لأنه هو الوسيلة الرئيسية التي يستمد منها المستعمِر والمستعمَر معًا قوتهما، فعنف النظام الاستعماري وعنف المستعمر يتوازنان ويتجاوبان في تجانس مشترك.

يضعنا فانون بهذا التصور أمام آليتين للعنف الأعمى لا تختلفان إلا في مقاصدهما، لكن ماهيتهما واحدة، فكما أن الاستعمار لا يكون إلا بالعنف، فكذلك التحرر واستعادة الإنسان المستعمَر لذاتيته وإنسانيته لا يتم إلا بالعنف أيضًا. وعليه فإن مقولة العنف عند فانون تصبح وضعية تاريخية وليس وضعية تيبولوجية، بمعنى أن العنف لا يمثل عند فانون شكله السادي حسب ما حاولت بعض الدوائر الكولونيالية توصيفه، بل رهان تاريخي يدفعه التحول في حياة المجتمعات خاصة حين تقابل بعنف. أما مسألة تصفية الاستعمار (الديكولونيالية) عند فانون فلا تخضع للمنطق الاستبدالي (استبدال أسماء الأماكن والذوات بأسماء وذوات أخرى) بل إن تصفية الاستعمار هي عملية تاريخية تدريجية ثقافية أكثر منها مادية، وهذا ما يفسر المحاذير التي ركز عليها فانون في ما بعد الاستقلال في أن الذوات ما بعد الكولونيالية تبقى حبيسة الشرط الكولونيالية بفعل المعايشة الطويلة مع المستعمر (وحيد بن بوعزيز: جدل الثقافة الصفحة 45). فصيرورة التحرر الفعلية حسب فانون هي التحرر بما هو استعادة وبناء للإنسان الجديد.

من خلال التوجه نحو تحليل العلاقة بين المرأة الملونة والرجل الأبيض وهي علاقة تشبه إلى حد بعيد بدايات الاستعمار وحتى بعده حين كانت ترمز الأجساد الأنثوية إلى الأرض المفتوحة (آنيا لومبا: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية الصفحة 157) فإن  فانون يشير  للبعد النفسي في العقلية المستعمَرة الذي يحوّل بانتباهه إلى العلاقة بين المرأة الملونة والرجل الأبيض وكيف ساهم الوضع الاستعماري في خلق شرخ نفسي أدى إلى حالة عصابية للإنسان الأسود، أو ما يسميه فانون بالهذيان المانوي،  والحال هذه تنطبق على حالات هذيانية عند المرأة الزنجية التي ترى خلاصها في الرجل الأبيض، فيقدم فانون لطبيعة هذا الانسلاب النفساني للأسود حين يقيم نقداً لكتاب “أنا مارتينيكية” (امرأة من المارتينيك) للكاتبة مايوتي كابيسيه، ولكي يوضّح أيضا أن الاستعمار ألحق بعض أدوات التي تعمق هذا العقدة الفوقية في ترسانته الأيديولوجية ليبقى متجدداً.

فيرى فانون، أن المستعمِر الفرنسي وجد صوت مايوتي حليفاً مثالياً، يثبت سياسة الاستعمار نحو الشعوب المستعمرة بتجديد خطاباته. فمايوتي كابيسيه، في كتابيها تشوّه الرجال الملونين، وترتاح لإنقاذ النساء الملونات على يد الرجال البيض الذين ينقذونها وأخواتها من العبودية. فمايوتي: تحبّ رجلاً أبيض تتقبل منه كل شيء فهو السيد، لا تسأله ولا تطالب منه شيئاً اللهم إلا القليل من البياض في حياتها (فرانز فانون: بشرة سوداء أقنعة بيضاء الصفحة 46). وتبرز العقدة من خلال توجه الكاتبة لعقد تماثل مانوي بين الأبيض صاحب القيم الفاضلة والأسود الدوني والبعيد عن هذه الصفات. وفي مقطع من الرواية تتحدث مايوتي عن فشلها في تسويد وتزنيج العالم لذلك ستحاول تبييضه في جسمها وفي لونها لأن الحياة صعبة بالنسبة إلى امرأة ملونة.

كما يشير داباشي إلى مناقشة فانون لروايتها الثانية “الزنجية البيضاء” حيث لاحظ أن مايوتي وصفت كل رجل أسود بالتافه أو صفات غير لائقة وما قاله فانون: نستطيع أن نقول بأمان إن مايوتي كابيسيه دارت بظهرها إلى الجزيرة. في كلا كتابيها هناك منهج واحد متروك لبطلتها وهو الرحيل. هذه الجزيرة جزيرة السود الملعونة بالتأكيد، والرحيل عن الجزيرة التي تمثلها جزر المارتينيك هو ارتحال عن الهوية وعن اللون وعن العرق نحو الأبيض رجلا كان أم هوية. وبهذا تقر مايوتي عدم الغرق في الزنوجة المفرطة عبر إنقاذ السواد نحو التبييض أو على الأقل نحو الأقل سوادا.

يذكر فانون ردود المرأة الملونة تجاه الرجل الأوروبي على مستويين ينقسمان وفق انقسام المرأة السوداء نفسها، فهناك الزنجية وهناك الملونة فالأولى ليس لها سوى وهم واحد هو التبييض أما الثانية فلا تطلب التبييض فحسب بل تريد تجنب الارتكاس (فرانز فانون: بشرة سوداء أقنعة بيضاء الصفحة 59)، ويدخل وهم المولدة أنها فتاة بيضاء لذلك تعتبر أن طلب الأسود الزواج منها ما هو إلا إهانة لها. أما الزنجية فتشعر بدونيتها وتتوق إلى أن تجعل من نفسها مقبولة في العالم الأبيض عبر ظاهرة تسمى التهيج العاطفي (Eréthisme Affectif). ويخلص فانون إلى أن العبد مخلص لدونيته والأبيض مخلص لتفوقه. والأسود يتصرف وفق تصرف عصابي للتهرب من فرديته ومحاولة إعدام لوجوده مما يحيله إلى نوع من الاستلاب.

النسوية ما بعد الكولونيالية | المرأة وسيكولوجيا الاستعمار في فكر فرانز فانون.

( ١١ )

ولنقرأ هذه الرسالة الجميلة التي كتبها المازني إلى هذه السيدة وفيها يعبّر عن شكّه فيها، ويعرّي نفسه تعرية صادقة مؤثرة مليئة بالسخرية الرائعة حيث يقول في هذه الرسالة التي تعتبر نموذجاً راقياً لأدب الاعترافات الذاتية الذي يخلو منه أدبنا إلى حد بعيد “عزيزتي الآنسة فاخرة هانم أظن أنك حيّرتني، حيّرتني جداً إلى حد ـ لا تضحكي من فضلك ـ إلى حد أني بدأت أظن أن الذي يُراسلني ليست آنسة ذكية القلب نافذة البصيرة، بل هي شاب داهية يُكاتبني باسم آنسة ليتفكّه بي ويسخر مني. فما رأيك في هذا الخاطر؟ أعترف لك أنه خاطر جرى ببالي من أول يوم وهذا هو السبب في التحرز الشديد الذي بدا مني في رسائلي الأولى ـ على الأقل رسائلي الأولى ـ ولكني تساهلت قليلاً مع نفسي وأرسلتها على سجيتها إلى حد محدود، فهل تدرين السبب في نشوء خاطر كهذا في رأسي؟

السبب أنني كنت وما أزال أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن في أيّ حال من الأحوال أن يعجبها إبراهيم المازني، ولست أقول هذا تواضعاً أو على سبيل المزاح، ولكني أقوله لأنه عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت نتيجة هذه العقيدة أني كما خبرتك في رسالتي الماضية تحاشيت في حياتي أن أحاول التحبّب إلى أية امرأة ولو كانت روحي ستزهق من فرط حبّي لها. ذلك أنّي لاعتقادي ذلك في نفسي أخشى أن أتلقى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي فتثور فأتعذب وأعذبها معي.

لا أدري كيف يكون رأيك في رجل هذه حالته النفسية بلا مبالغة، وإنّي أقسم لك بكل ما يحلف به الأبرار أنّي لستُ كاذباً ولا متخيّلاً وأن هذه هي حقيقة اعتقادي في نفسي وحقيقة الواقع ـ ولا شك أنها شاذّة – ولكن ما حيلتي؟ وأنا أخسر بسببها كثيراً مما يفوز به الرجال، وأرى مفاتن الحياة تتخطاني وتقع على سواي بغير سعي منه لها، فلا أتحسّر لأني رضت نفسي على الحرمان ووطّنتها على أن لا تأسف على شيء. وما أكثر ما يفوتني وأحرمه في دنياي في كل باب حتى باب المعيشة المادية، ولكن ماذا أصنع؟ لا شيء. صرت أتفلسف وأقول أن رياضة النفس على الزهد تتطلب قوة نفسية أكبر وأعظم من القوة التي يحتاج إليها الاقدام على التمتّع بلذاذات الحياة ونعم العيش، فهل هذا صحيح؟ لا أدري، ولكني أدري أنني لم أطق في باريس أكثر من ربع ساعة، ولا لندن أكثر من أسبوع، وأحببت الريف والبساطة، وكنت في رحلتي أفضّل أن أجوب الريف بسيارة صديق أحمل فيها طعامي وأبيت أحياناً كثيرة فيها بعد اغلاق نوافذها. لقد قلت مرة لصاحبة اجتمعت بها على ظهر السفينة:

ـ يا سيدتي إنّك جميلة وحرام أن تُلقي بجمالك بين يدي حمار مثلي لا يُعجبه إلّا البرسيم.

هي مرارة نفسي تطفح أحياناً وتقطر من اللسان أو من القلم، ولكني ربّما كنت معذوراً ولعّلي كنت أكون أسعد في حياتي لو عشت في كهف بعيداً عن الناس.

أي نعم. وقد حاولت هذا مرة وقضيت بضعة أسابيع في جبل المقطم على أثر صدمة قوية تلقيتها من يد القدر، وكنت أشرب الماء بحفْنَتي من كفي وآكل من شبه مأجور من الطين فهل تصدقين.

ونفعني ذلك فعدت إلى الحياة بعزم جديد ونشاط كان مفقوداً. كتبت هذا لأشرح لك جانباً من شخصيتي السخيفة، ولست أعرف هل هي مزدوجة أو مثلثة ولكني أعرف أنّي مثل غازل أعمى جيء له بخيوط وقيل له اغزلها. فتناول الخيوط وراح يعمل وأنّه ليعلم أن للخيط مذهباً ولكنه لا يرى طريقه، بل يتحسّسه، وقد تثور به الرياح فتفلت الخيوط من كفيه. أنا ذلك الغازل الأعمى الذي جاءت به الحياة وقالت له اغزل… وقد نظّمت قصيدة في هذا المعنى فلا تقرأيها.

مدهش جداً أن تقولي عن نفسك ما قلت في خطابك.

أيّ جريمة؟ ماذا في جوابك مما يمكن أن يسوءني يا سيدتي. حقاً كأنك لا تعرفين أنّك أوّل سيدة جليلة أولتني عطفاً وظنتني شيئاً يستحق كل هذه العناية. لا يا سيدتي. إني رجل أحفظ الجميل ولا أكفّره، ولا أجحد فضل الله وفضلك عليّ، فإذا كنت قد وجدت في ردّى ما يُشعرك أنّي تألمت، فإنّي آسف جداً وأرجو أن تحملي هذا على محمل المرارة التي في نفسي، وهي مرارة طبيعية لا تتأثر بشيء من الخارج أبداً، فسامحيني بالله واعفي عني واغفري لي زلّاتي وكوني معي على الدنيا. ألم أقل لك ‘نّي جاهل؟ بلى. وإني لأجهل الجهلاء وأبلد البلداء. فهل صح عزمك على أن تتفرجي على هذا الجاهل الغبي وتريه بعينيك يوم الأحد؟ أم عدلت يا ترى؟ أرجو أن يكون عزمك مستمراً، وسلامي وتحياتي وأشواقي وشكري العميق وما هو فوق الشكر والتحيات والأشواق، وأبلغ من كل ذلك.

أين يضعون هذه العلامة: (+)؟ إني أضعها في كل مكان فوق اسمي وتحته وإلى يمينه ويساره وفي حبّة القلب وتحت كل ضلع، وعلى كل عرق نابض وفي كل واحدة من مسام الجسد.

عبد الكريم البليخ | الأدب والحرمان: المازني وجيله وقسوة التقليد الاجتماعي.

( ١٢ )

أكتبُ كيفما كان وأينما كان. ما يهمُّ بعد ذلك هو التّركيب وخاصّة الفكر النّقدي المؤدّي إلى إزالة جزء كبير من النصّ. من جهة أخرى، أُحاول أن أكون أكثر قربا من نفسي. ما جدوى الكتابة إن لم نتحدّث عن أنفسنا؟ بالطّبع، الأنا بغيض، لكن أنا الآخرين بالأخصّ.. ثُمَّ، أليس من الأفضل أن يكرهنا النّاس لذواتنا على أن ننال إعجابهم أو نحظى بحبّهم لما لسنا عليه.

بالنّسبة إليّ، يمثّل الشّكل الشّذري روح الأدب، النّواة الأساسيّة، العلبة السّوداء لكلّ إبداع يريد أن يتحدّى الزّمن. على سبيل المثال “هل تتذكّر تلك الثّعابين التي، عندما وصلنا إلى إيبيروس، كانت تمسح خلفنا آثار أقدامنا؟ ثعابين أخرى ستأتي وكلّ شيء سَيُمْسَحُ”. من يمكنه منافسة سكيبيو الأفريقي؟

لطالما تمتّعتُ بتوابل لاروشفوكو، شومفور، نيتشه أو سيوران كي لا أصاب بغواية قول في فقرة واحدة ما يتعسّر على آخرين التّعبير عنه في كتاب كامل. في “مكيّف في الجحيم”، نَقَرْتُ في دفاتري ما يمكنه إعطائي وهْم أنّني أستحقّ تقدير أساتذتي في السّخرية والتّحرير من الوهم.

الوقاحة، الاستفزاز، الفكر الخبيث، لطالما دفعوني، أحيانا رغما عنّي، لقول كلام غير لائق. التّحليل النّفسي لعبت كذلك دورا هامّا. أن تكون عقلا حرّا يتطلّب التخلّص من كلّ حكم مسبق والتّعبير عن كلّ ما نشعر به، حتّى الأبشع. ومع ذلك، يجب أن تكون في حالة طيّبة. ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى عدم الاكتراث وقبول هزيمة الفكر بشيء من الوقاحة. وإن كنتُ قد فشلتُ في ذلك، فعلى الأقل قد حاولتُ قبول تحدّي الشّكل القصير في الكتابة.

في شبابي، ارتأيت نفسي في شخص اليهودي التّائه أهاسيفيروس. لأنّه كان قد خاطب المسيح بوقاحة وهو على طريق الصّليب، حُكمَ عليه بأن لا يرتاح في أيّ مكان كان وأن يعبر القرون وكأنه ميت حيّ. لكنّ اللّعنة التي يحمل عبئها هي في الآن ذاته بركة تعمّه. رمز التّيه والانفصال وانقلاب جميع القيم، إنّه ذلك الحالم السّاخر الخائن لجلّ وعوده، وهذا ما كنت أطمح أن أكون. وفعلا أطنبت في تبديد ثرواتي الأخلاقيّة في الاستهزاء وفي لعب دور مصاص الدماء مع الفتيات الصّغيرات.

بالنّسبة إلى أناس مثلي ليس العالم إلاّ ديكورا لرغباتهم أو مخبرا لصراعاتهم. هذا ما يفرض عيش حيوات كثيرة وإفسادها جميعا حتىّ لا ننجح إلاّ في مراسم دفننا.

حين فهمت مهزلة أنّني سويسري، وهي مهزلة تشبه وضع تلك الآنسة التي أرادت أن تشتغل في ماخور دون أن تفقد عذريتها، بدأت في تذوّق لذّة سخرية أنّي من مسقط رأسي.

لا أتحمل إلاّ الأشخاص الّذين يحمون الآخرين من فظاظة حمل جنسية أو دين، وهم أشخاص تنفلت الأرض تحت أقدامهم.

كل عام ليلة عيد الميلاد يخرج ربّ العائلة من داره، يطلق رصاصة في الهواء، ثم يعود هادئا بين ذويه المرعوبين قائلا “قد انتحر بابا نويل من جديد”. هل يجدر بنا أن نحلم بهديّة أجمل من هذه بمناسبة عيد الميلاد؟

أب غاضب لأنّ ابنه لم يتعلم شيئا من دروسه في السِينيزم [8]، فقرّر بمناسبة زواجه أن يرسل إليه البرقيّة التّالية “الزّواج في الشباب كابتياع سخان كهربائي صيفا”. فأجابه الابن فورا “لا تعوّل عليّ لأهديك مكيّفا في الجحيم!”

يمثل جحود الأبناء تجاه والديْهم الشّكل الأكثر مكرا للحبّ الذي يدينون لهم به.

تُمثِلُ مقاومة قلقي الشّخصي النّشاط الأساسي الذي كنت أقوم به، وهو النّشاط الوحيد الذي طالما مارسته في غاية السّريّة، وليس ذلك للأناقة بل لتجنّب الشّفقة. كان البعض يغارون مني لأنّهم كانوا يجهلون كل شيء عنّي. وبفضل حسن مراوغاتي كنت أتمكّن من الإفلات منهم. لم يكن ذلك يدوم طويلا. كنت أحلم بالعدم كانتصار أخير، لكن في قرارة نفسي كنت أعلم أنّ السّقوط سيكون شأنه شأن حياتي دون منزلة.

في أحد الأيام، في فندق فخم، التقت نظراتي بنظرات معبود الشباب [9] الذي كان يستعد لإشعال شرارة الرّغبة الجماعيّة في أحد ملاعب لوزان. كان من فئة الرياضيّين الذين تفوّقوا على كلّ المصاعب، في حين لم أكن أطمح إلاّ لأصير الكُتيّبَ الأكثر طيشا في جيله. كان معبود الشباب من فئة المراهقين المتخلّفين الذين تصنع الحياة منهم أجمل شيوخها. قريبا سيتجاوز تلك النقطة التي بعدها تصير تذكرته غير صالحة. كنّا تقريبا في نفس النّقطة، تلك التي عندها يجتاحنا شلل إلهي: تمّ كل شيء، ربحنا كلّ شيء، خسرنا كل شيء. ما جدوى ذلك؟ ابتسامة النصر تشبه تكشيرة الهزيمة. كان يعرف ذلك وأنا كذلك. كان فينا شيء من تينيسّي [10].

كنت فيما مضى أخفّف من روع قلقي بمعاشرة فرويد وبمشاهدة أفلام إنغمار برغمان [11]. اليوم، أمتصّ أعوادا كيماوية وأتفرّج على كائنات بشريّة إلكترونيّة وهي تهتزّ على قناة M.T.V.. هكذا تتفسّخ الإنسانيّة ‒ منّا وخارجنا.

في أفضل الحالات، تدور العلاقات على هذه الشّاكلة: في اليوم الأوّل الإثارة، في اليوم الثّاني الفضول المرضي، في اليوم الثّالث اللامبالاة. لكن عندما تمتدّ الإثارة فالأسوأ ليس ببعيد.

في أحد الأيام، نفهمُ أن لا وجود لقصص الحب، لأنّ الحب نفسه قصة داخل قصة أخرى. وهي قصة ليس بالضرورة أن تتكرّر: إنها تُقفَّى. إذ أنّ نهايتها تعكس بدايتها. كما في المتاهات القديمة، باب الدخول وباب الخروج يتماهيان.

في فلم فريتز لانغ [17]: “السرّ وراء الباب”، تتزوّج وريثة شابّة رجلا مجهولا. الرجل مهندس معماري يعيد التشكيل ويهوى تجميع غرف كانت مسارح لجرائم قتل مشهورة. يرفض أن تزور زوجته الغرفة رقم 7. ها هي الجرائم التي وقع اقترافها، يُلمّحُ بذلك، هذا ما اقترفتُ ‒ كان متزوجا قبل ذلك ‒ وهذا الذي سأقترفه. هُنَا يَكْمُنُ جوهر الروائي. لا قيمة لفلم أو لكتاب في نظري إن لم يدورا حول هذين السؤالين: ما هي الجرائم الّتي اقترفت؟ أيّ بشاعاتٍ أخرى يمكنني أن أقترف؟

عشتُ تجربة الزوجيّة. أعرف أنّ الانتصاب مقترن بالعذاب. النساء جُعلنَ لِذلكَ، أدواتٌ قابلةٌ للتغيير للذّة تكاد تكون دوما متطابقة.

عشتُ تجربة الوحدة. منحتني شعورا بالتفوق. وفجأة تكسّرَ كل شيء وجعلتني منبوذا. عندما يحلّ اللّيل، أبلعُ كبريائي وأتضرّعُ مداعبةً مع العلم أنّي سرعان ما أعضّ اليد التي تُهدّئ من روع قلقي.

أحيانا، وأنا أحلم، أتساءل عن قلّة عدد الأفلام حول نظرة البقر. أُقرِّرُ إذن الذّهاب إلى كلّ البلدان لدراسة الاختلاف في نظراتهم.

كم من السّهل التعرّف على قاتل: إنّه يريد الحبّ الشّامل.

جعل الحياة أسهل؟ لكن هذا في مقدور كل واحد. الموتُ كافٍ.

ذَمُّ الحَاضِرِ ومَدْحُ الماضي رفاهية من خاصيّات الشّباب. كي لا يبدوا سخيفين أو مزعجين، يجب على الشّيوخ أن يمتنعوا عن الإدلاء بأيّ تعليق غير لائق عن العصر. في الفترة الأولى من الحياة يجب إذن أن نتظاهر بكره ما نحبّ وفي الثانية بحب ما نكره.

لا تنتظروا حقائق من قبل خبير في الكذب. لا تنتظروها كذلك من قبل شاهد مستعدّ للموت من أجلها. لا تنسوا أنّ الحقيقة تولد بعد موت الواقع حيثُ تأتي لتفسير معانيه. لا نؤمنُ بها إذن إلاّ لعدم توفّر ما هو أفضل، لأنّ ذلك يلائمنا نحن وكسلنا.

يبدو أنّ الحلم السرّي للقرن العشرين يَتمثّلُ في سماع “النَّفَسْ الأخير للسّلالة”. وهذا حلم آخر لم يتحقّق.

كان معلّمي العجوز يكرّر عن طيب خاطر أنّ أول كلمة تتبادر إلى ذهنه عند خروجه من بيته هي “إبادة” [18]. لكنّه كان يعيش في فترة سخيّة حيث في السرّاء والضرّاء كان البشر يعيرون اهتماما لأمثالهم.

كثيرا ما تحدثوا بسوء عن هتلر: لكنه على الأقل تمكن من شفاء البشرية من تفاؤلها الهستيري.

في أسوأ الحالات، الكلبيّ [19] آلة حاسبة في خدمة آلة ملذّات، وهو في أفضل الحالات منحرف أنيق يُخفي جفاف قلبه خلف فلسفة ذاتويّة لطفل مدلّل. هل يكفي ذلك؟ ولمَ لا! ولكن مع ابتسامة تهكّميّة تجاه تلك الأرواح الطّاهرة التي تمعن في تحاليل لا نهاية لها حول وجه الآخر، والتي لا نعرف إن كانت تشكو من شكل ودّي من السذاجة أو من نوع آخر أكثر تبلورا من السينيزم.

كلُّ ما أُلّهَ شُيْطِنَ وكلّ ما شُيْطِنَ أُلّه. قرارات الاتّهام والمرافعات ذاتها لا قيمة لها لأنّ قابليّة انقلاب كل شيء يعفينا منها.

من الكارثة إلى الرّغبة: إنّه عنوان أطروحة دكتوراه الشّاب الجالس قبالتي في مقهى فلور [20]. أكّد لي أنه قد يكتب اليوم العكس بالضبط: من الرّغبة إلى الكارثة. طلبتُ منه أن يبذل مزيدا من الجهد: بَلوِرْ فكرة أنّ الرّغبة كارثة. لا أظنُّ أنّه فهمني فعلا، لكن بدا لي أنّ الفكرة فَتَنَتْهُ. أبيتُ أن أوضّح له أنّ سرّ الوصول إلى ذلك يكمن في تجاوز الرّغبة والكارثة. أنا أيضا أطمح إلى ذلك، لكني أتقاعس.

إن كان الفلاسفة من فئة الأوغاد قطاع الطّرق، شأن ديوجين، غرتسيان، كيركغارد، نيتشه، فيتغنشتاين أو سيوران، لكنتُ قد تبنّيتهم حالاّ. لكن عندما يُنصِّبونَ أنفسهم أساتذة ويعتبرون ترّهاتهم النظريّة أو تعاليقهم العالمة أهمّ من حياتهم، فإنّي أتخلىّ عنهم.

طبيعتي تُمَثّلُ مُشْكِلاً؛ سَأُكرِّسُ كُلَّ قواي للبحث عن حلّ لهذا المشكل. هذا ما قاله الفلاسفة الذين لهم قيمة عندي.

لا تعني الفلسفة لي شيئا إلاّ عندما تفقد صوابها. في آخر حياته، وصل فيتغنشتاين إلى درجة أنّه لا يرغب إلاّ في لفظ أصوات ممزّقة. أنا أفكّر إذن أنا أغرق.

الخاطرة هذه لنيتشه: كره الرّداءة غير جدير بفيلسوف وربّما يمنعه من الولوج إليها. إن كان استثناء فعليه أن يحبّ القاعدة. ستكون تلك طريقته الشّخصيّة في الشّجاعة.

وعندما سألتُ الجميلة السّمراء المكلّفة بمكتب الإرشاد السياحي بمدينة نيس أين كان يعيش نيتشه، أجابتني بطلاقة ساحرة: “كان يتسكّع دوما من جهة ساحة سَلِييَا..”.

ما يُفتِّشُ عنه الغندور في عيادة المحلّل النّفسي، هو الأريكة، حيث يتذوّقُ إمكانيّة اكتشاف أنواع مختلفة من الصّمت. النّظريّة تبعثُ فيه الملل وكلمات فرويد تسلّيه. يَحْكُمُ بفساد متميّز على هذا الفنّ المُتمثّل في بيعه لكلّ واحد كلماته الشّخصيّة، كما لو أنّ لها ثمنا أو أيّ قيمة حتىّ. في حالة من انْعِدامِ الجاذِبيّةِ، يُسَافِرُ إلى بلدان أجنبيّة. ويهمسُ: “كان حلما، حلما وحسب.”

لكن لم تعد الأريكة إلاّ أثرا قديما، وصارت أعمال “المعلّم” تُباعُ بثمن زهيد في جناح “الصحّة” بالمغازات الكبرى. صِبْيةٌ يلعبون بأقراص اصطلاحيّة هي اللاّوعي والكبت والعُصاب، لكنّهم نسوا منذ زمن قواعد اللّعبة. لم تعد للكلام قيمة ولم يعد أحد يصغي إلى الصّمت. حتىّ الغندور يدرك أنّه لن يبقى حيّا بعد موت أحلامه. يُلقي على فرويد نظرة امتنان: فأولئك الذين أعادوا للمزاح اسمه النّبيل ليسوا بكثيرين في القرن العشرين.

الغريب ليس أن نتكّلم كالمثاليّين وأن نتصرّف كالتجّار، بل أن نكون ساذجين إلى درجة أنّنا نتخيّل أنّ الأمر مختلف بالنّسبة إلى محاورينا: من لا شيء له ليبيعه لا شيء له ليقوله. ومن لا شيء له ليقوله جاهز للجنون أو للقداسة.

هل للدّموع التي نذرفها على كوارث العالم أيّ معنى؟ للآخرين، تلعب دور شهادة حسن تصرّف، وبالنّسبة إلينا هي دليل على طيبتنا وعلى حِسِّنَا المرهف. لكنّها تجفُّ بسرعة ولا تستمرّ الخدعة أطول.

لا يحظى فكري في نظري بشيء من المشروعيّة إلاّ عندما أفاجئ نفسي متلبّسا بانتحال كتاباتي.

قد يكون من الغلط أن نتوقّف عند الطّبيعة ذات التّركيبة غير المُرضِية لكلّ الأشياء: لن نخرج إلا بمصنّفات شاحبة عن خيبة الأمل لا تنفع إلاّ في تسليتنا إزاء رتابة الأيام. لا يجب الكلام بعد الرؤية، يجب قول استحالة الرؤية. أفٌّ غير مبال يساوي كل قرارات الاتهام.

علينا ألاّ نقع في سخافة الحديث عن أشياء جِديّةٍ؛ سيكون هذا كممارسة الحبّ من أجل إنجاب أطفال.

أداة التعجب العدميّ عن جدارة: “وماذا بعد!” يمكنكم أن تطهوها بكلّ الصلصات، ولتعلموا أنّها ستكون دوما لذيذة.

يزداد عدد الذين يهيمون في المدن الكبرى في أغلب الأحيان دون هويّات وفي حالة من فقدان الذّاكرة. لا أحد يعرف من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون. لكن يكفي أن نسترق السّمع لنصغي إليهم يتمتمون: “لم يسمح لي الوقت. كان ذلك قصيرا.” ويكرّرون: “الحياة! كانت قصيرة جدا، الحياة.” يبكون وهم يقولون الحياة.

مُروّضُ نمور يبلغ من العمر 63 سنة، مشمئزّ من الحياة ومن السّرك، في أحد الأيام دخل بعد الظّهر إلى القفص متنكّرا في هيئة قرد. لم تكن النّمور شرسة، لكنّها لم تتعرف عليه فافترسته. يحدثُ دائما في حياة كل واحد منا وقت ما لا يتعرّف فيه علينا الآخرون ويفترسوننا. لكنّنا نادرا ما نعي بذلك.

إلى الذين هم مندهشون لأنّي لا أزال حيّا، أُجيبُ: يُمكنُ أن ننتحر دون أن نموت. هذا ما قمت به في كتبي. إنّه حلّ في شدّة الرّفاهية، إنّه حل سويسري..

وجب فهم أنّ الأسلوب ليس مسألة تقنيّة، بل هو حصيلة لنظرة للعالم. وهذه النّظرة، لا نتمكّن من امتلاكها إلاّ عندما تضعف بصيرتنا وتصلنا أصوات العالم خافتة. عندها إذن يتشكّل شيء ما وهو عالمنا. لم نربح شيئا حتىّ الآن. لأنّ ما نكتشفه بإمكانه أن يُحبط عزيمة أكثر النّاس شجاعة. وحده بإمكانه أن ينجح ذلك الذي ينجو من الإحباط ومن القرف ومن السّأم المنجرّ عنهما. ينجح في ماذا؟ ربّما في الوصول إلى يأس أكثر عمقا، يفضّل البعض الحديث عن الفرح. ربّما في أفضل الحالات في الوصول إلى فراغ كامل إلى درجة إلغاء الضغوطات فيظهر شيء ما، ليس معنا ولا ضدّنا، لكن مستقلّ عناّ. ربّما. لستُ أدري تحديدا، لم أصل إلى هذه المرحلة بعد.

التشفّي النصّي شبيه بالتشفّي المرضي أو بالتحرّش الجنسي. إنه ثقيل وفظّ وبغيض. يجب الاستمتاع بالكتب وبالحياة وبالنّساء بخفّة، وبعد ذلك ترك النسيان يغطّي كلّ شيء.

قراءة كتاب إلى آخر صفحة شكل من أشكال التعصّب الذي لم أقع فيه أبدا.

نتذكّر كلمة أناتول فرانس عن مرسيل بروست: “ماذا تريدون؟ الحياة قصيرة جدا وبروست طويل”. كان يجدر قول العكس تماما: بروست قصير جدا والحياة طويلة.

نبرة تحقيريّة شيئا ما، محاطة بهالة من السّخرية، لكن أنيقة، آه كم كنتُ مستعدّا للتّضحية للتمكن منها! كان عليّ أن أمرّ بمشنقة الجامعة وأن أكمل تدريبي في ادّعاء العلم. حاولتُ أن أتحرّر من خلال الصحافة؛ فوقعتُ في نسقيّة أكثر شدّة. كنت متحذلقا فصرت سطحيّا.

منتاني [22]، بنجامن كونستون [23]، نيتشه وسيوران دلّوني على الطريق، لكن عندما عثرتُ أخيرا على نبرتي عشتُ خيبة أملي الأخيرة. كلّ هذا الجهد لنتيجة كهذه. بالرّغم من قرب المرمى، فإنّي فشلتُ في إصابته مرّة على اثنتين، بالرّغم من أنّي كنت أطمح إلى الوصول إلى هدف لم يلمحه الآخرون حتّى. من الغيظ، صوّبتُ سلاحي باتّجاه نفسي. “حيلة عاجز”، تَمْتَمْتُ قائلا وأنا بصدد وضع قلمي.

الكاتب الحقيقيّ بمثابة ذلك المسكون بالأَمُكْ، تلك النّشوة القاتلة التي تدفعه إلى الإمساك بخنجره فيخرج راكضا في الشّارع ويقتل كل من يعترض طريقه، إلى أن يقع صرعه ككلب مسعور. يمكن تقدير قيمة كاتب حسب عدد ضحاياه.

عندما ينظر كاتب خلفه، يرى ظلّ كاتب آخر.

عندما ينظر ناقد خلفه، يرى ظلّ خصيّ.

المجهول الأعلى، عندما نُريدُ تعريفه، ينظر خلفه ويتساءل عمّن نتحدّث.

في النّقطة التي وصلتُ إليها، بِمَ يُمْكِنُنِي أنْ آمل أكثر من مكيّف في الجحيم؟

كلُّ سطر نكتبه وقع انتزاعه من نفس الصّفحة ومن نفس الكتاب الّذي لا يمكن لأحد أن يتباهى بأنّه صاحبه، ما عدا الشيطان، ربّما.

كان مستلقيا على كرسي بحر طويل في الطّابق الثّاني من نزل المريديان بنيس. وكان يفكّر في ما كان ينتظره من الحياة.

“لا شيء أكثر”، هذا ما كان يقوله لنفسه، خالي الذهن، تحت الشمس. لم يلاحظ حتىّ وصول “شاد”. مدّت له بمجلة متمتمة: “خذ واقرأ! [24].

فَكَّرَ أنّ لا شيء أكثر إثارة من شابّة حمقاء تُلهي نفسها بتقليدنا. كانت تحمل تحت إبطها ليبراسيون [25]. طلب منها:

– عمّاذا يتحدّث الأب “سكوركي” [26] اليوم؟

– أنّه مارس العادة السّريّة وهو يتفرّج على “كاثرين لانجي” [27] في التّلفزيون وأنّه يتمنّى أن يفقد كلّ قرّائه من فرط حماقاته. لكنّك لن تعرف ذلك أبدا..

– ولماذا إذن؟

فتحت فواسي [28] في الصّفحة 72 وقالت:

– مَنْ “فريديريك بيغبيدي” [29] هذا؟ أُحِسُّ أنّه يعرفك أكثر منّي..

– ليس هذا بغاية الصعوبة!

عدّل كرسيه ووضع نظاراته ليقرأ دفعة واحدة ما بدا له أنّه تحليل عميق عن مجهوداته الأدبيّة المتواضعة. أحبَّ أن يُنعتَ بـ”سولرس” [30] مُضاد. كانت “شاد” تنتظر ردّه. كان مبتهجا. عندما أرجع إليها فواسي، كانت عبوسة الوجه. قالت له:

– لا أحبّ كثيرا الرّسم، لكنّي أرغب حقا في فراولة تغادا [31]. في نهاية الأمر، كانت مغامرة اليابان محفوفة بالمخاطر لكن ناجحة..

نظر إليها بشفقة. لم يكن يدري إن كانت تهزأ منه. لكن بدت له رشيقة عندما ارتمت في مياه المسبح اللازوردية. عند وضعه المجلة، فكَّرَ: “حقا فريديريك شخص راق…” فكّر كذلك في “متزنيف” [32] الذي كان بمثابة الأخ له، وفي هومبرت [33] السويسري والجامعي مثله، وفي لوكيني [34] الذي كان يحب أن يدردش معه في مقهى فلور، وفي سكوركي الذي كان قد وعدنا بأسبوع من الأفلام الإباحيّة.

أشارت إليه “شاد” بأن يلتحق بها. كم كانت تشبه فتاة أحلامه، وكذلك الفتيات اللّواتي كنّ له، وهذا أمر مريب. وهو كذلك أمر مناف للأخلاق إن احتكمنا لنظرات التوبيخ التي كانت ترميه بها العجائز المتعنفصات. لكنّه كان متمرّسا من تلك الناحية. ولج إلى الماء مثلما نلج إلى جسد امرأة. كان بإمكانه أن يموت حينها. أو أن يطبخ بعض الشّذرات الحزينة. كان عليه قبل كل شيء أن يشكر فريديريك ب. فكّر في رسالة من نيس. كانت الشّمس لا تُحْتَمَلُ إلى درجة أنّه تساءل إن لم يكن قد حلم باليابان و”شاد” وفواسي. وحدها الأحلام تمنح شعورا كهذا بالكمال. ربّما لم يكن يفعل شيئا آخر غير الحلم.

قالت له “شاد”: إذن، سيّدي العدمي، هل لا تزال تثير الحياة اشمئزازك كدواء عديم الجدوى؟

فأجاب على هذا الاستفزاز العادي بقبلة لا تقلّ عنها عاديّة. وقال في نفسه برضى غريب: “يجب ألاّ أنسى أنّها عدوّتي اللدود”. قد يُهْدِيهَا أغنية ميشيل فوغين [35] Jusqu’à demain peut-être”” “رّبما حتّى الغد”. الفتيات الصّغيرات يطمحن للتّواصل أكثر من فصلٍ. ولمَ لا في نهاية الأمر؟ حتما قد ينصحه فريديريك بيغبيدي بتأجيل إعدام “شاد”. وبما أنه يصغي دائما إلى نصائحه، يقول في نفسه أنّه سيكون للمرّة الأولى لطيفا، شديد اللّطف. ولن تكون تلك سوى طريقة أخرى لممارسة قسوته.

لا جديد تحت الشّمس؟ نعم بالطبع: لا وجود للشّمس أصلا.

رولان جاكّار: مهزلة أنني سويسري | أيمن حسن

إياك أن تفعلها . .