ــ ذاكرة يتصاعد منها الدخان.

قبل أيام قليلة.

أحلم بحمزة. ليس لأني مومس أو ذئبة جائعة. وليس ايضا لأني أحبه أو لأني لا أملك عاطفة موصولة مع زوجي الحالي. لا يشغلني هذا الجوع كثيرا ولا يجعلني أجلس أرضا على ركبتاي وأتضرع إلى بوذا. إنه جوع هادئ ومحدد الملامح. والجوع الهادئ إحساس من ضمن مجموعة أحاسيس ذات ملامح واضحة ومحددة. قد لا يكون هو رجل حياتي، لكنه قطعا الرجل الذي كنت أحب الانغماس في الحديث معه. فقد كان صوته حار ومثالي لاحتضان الكلمات. وكان رجل كثير الترحال، ومثقف نوعا ما. وكان يحمل في كلامه الفوضوي بعض الحكمة التي تضني العقول الباطنة. أسلوبه في التفلسف مقبول، ولا يجعلك تشعر بأنك أغبى منه. وكان يأخذني أنا وهذياني من أيدينا ويتنزه معنا في حدائق الكلمات. ربما لهذا السبب بقيت مدة طويلة بعد رحيله صامتة تحت الشرشف. الإدراك أن هناك من يفهمنا، ويعرف بالضبط ماذا نعني، كيف تخرج الحروف من أفواهنا، ومتى تعود لأدراجها، ذلك ما كان يجعلني أحزن على ذهابه.

ليلة الدخلة.

تذكرت حمزة، وأنا أقوم بالتعري لخلدون. كنت أمضي بعض الوقت في التأخر عن نزع جميع القطع التي كنت أرتديها. بدت لي غرفة النوم وكأنها غرفة الجلوس. حاولت الإطالة في مسح المكياج وطلبت منه أن يدخن مع أنه كان ضد جميع مشتقات التبغ وغير مدخن من الأساس. بعثرت قصدا بعض الحاجيات ونفضت من على الكنبة حشرة بحجم بؤبؤ العين. لا تفهمني غلط. أنا لا أفعل ذلك من باب الخوف أو فقدان الشهوة أو الارتباك. كما أنني لست مشوشة مثل شخصية ماريان داشوود في رواية جين أوستين «العقل والعاطفة»: لقد تزوجته بدافع الحب، وبكل عقلي، ولم يمتلكني التردد يوما بالموافقة على طلبه يدي. أنا متأكدة مما أقوله.

دون أن أعي، شعر خلدون بالملل من مناوراتي وهواجسي. اتجه نحو الباب. أقفله. مسك طرحتي وخنق بها الحشرة. صار يناديني بصوت مبحوح، ثم تحول إلى وحش وراح يلاحقني في الغرفة مثل المسعور. وكان هذا يبعث البهجة والسرور في داخلي. أن أعرف أنني مشتهاه ومرغوبة إلى هذا الحد ليس هو ما كان يسعدني لحظتها، بل الموقف نفسه.

كان يطاردني في أرجاء الغرفة مثل الشرطة.

مواقف مضحكة، لكن تفاصليها حزينة.

كنت أقع بسعادة

ثم أنهض بحزن

……………… أقع وأنهض.

لم يكن ما أفعله به أخلاقيا.

بعد مضي شهر.

يستيقظ خلدون عادة قبلي. يمرر يده على وجهي ويخبرني كم أنا جميلة دون مكياج، وكم هي تقاسيم وجهي أجمل وهي مخفوسة من كثرة النوم والتدليل. لا أدري من الذي أخبر جنس الرجال أنهم عندما يقولون إلى امرأة: “أنتِ أحلى من دون مكياج” فهذا من المفترض أن يجعلنا سعداء. هذي في الحقيقة إهانة مبطنة وتعيسة. أو نقد ذكوري بائس في أغلب الأحوال. هو افتراض أنني شبيهة بشيء ما جميل لكن فقط في حالة واحدة: عندما أكون غارقة في الأصباغ ومستحضرات العناية.

عندما كنت برفقة حمزة، كان يعرف أنني عندما أطيل الجلوس أمام المرآة، فأنا وقتها أكون في أتعس حالاتي. ويعرف أنني لا أريده أن يذكرني بجماليات تقاسيم وجهي. كان يجلس بجواري ويفهمني مباشرة. لكنه أيضا كان ينظر إليّ مكتوف اليدين. لم يكن يشدني من الحالة التي أنا فيها. عانيت معه في هذه المسألة كثيرا. كان أحيانا يشعرني بأنني جالسة مع طبيب نفسي. طبيب ناجح في فحص الشعور، لكن فاشل في المداواة.  بالفعل. كان يرفض هذه الحقيقة. وكنت ساخطة عليه لأجل هذا. لم أكن أفهم كيف يكون بمقدور شخص الغوص في أعماق مكنونات الآخرين لكنه في نفس الوقت عاجز عن لمس سطح مشاكله الخاصة. كم كنت أكرهه عندما كان يقول لي:” أنت معقدة، أنتن النساء معقدات”. إن في هذه العبارة الكثير من الانحطاط في نظري. والكثير من الكسل والإهمال. لم أكن بحاجة إلى أن يكون اينشتاين ويخترع الحلول الملحمية لحالتي الوجودية. ولم أكن أسعى لمعالجاته الخارقة. كنت أريد فقط بعض الاهتمام البسيط. كانت تلك هي جوهر المشكلة وليست عقدي.

الشهر الثاني: أسباب منتشرة.

يسارع خلدون في نجدتي بقدر الإمكان، ودائما ما يستخدم فرشة الأسنان الخاصة به، لهذا تزوجته.

الشهر الثالث: توضيح.

صديقتي فرح مسؤولة بشكل ما عن زواجي من خلدون. هي التي اقنعتني بأن أسمح لقلبي أن يحب من جديد. فأنا، لم يكن في ذهني أبدا أنني سأنام في أحضان رجل آخر غير حمزة. كانت هذه الفكرة تؤلمني حقا، لكن فرح كانت دائمة الهجوم عليها. أقصد على الفكرة نفسها. وكانت تقول بأن الألم الفظيع الذي في رأسي لم يكن في الواقع سوى ألم من خيال. لهذا، كانت تأتي كل يوم بمطرقة، وتضرب خيالي على رأسه. بل وكانت أحيانا تركله بين الخصيتين. وكان يتظاهر بالعرج. خيال أعرج في رأس مضغوط بالألم. وكنت مع كل ضربة، أرجو أن يتكسر كل ما في ذهني من اهتمام وأفكار ووعود وعقد.

الشهر الرابع: معرفتي بخلدون.

أذكر أنني كنت يائسة وشاردة ذات يوم بين صفحات الانترنت، ووجدت خلدون. كنت أعرفه من قبل. لذلك لم تكن صدفة خوارزمية. كنت أعرفه قبل حمزة بسنوات ولم أكن أظن أنني في يوم سأغرم به. مثل هذه الأشياء لا تقال بصوت عال، لكنها تظل مسموعة، لأنها جزء من الحياة.

الشهر الخامس: الحمل الأول.

ليس ثمة ما هو عظيم في أن يكون المرء أم. لن يخرج من مهبلي توت عنج آمون آخر.

الشهر السادس: الدوش.

تدفق صوت الماء المغلي يوافيني بالأفكار السعيدة. حاولت كثيرا أن أشرح هذا لخلدون ونحن في الدوش لكنه لم يستوعب. عادة ما يكون مأخوذ ببروز نهدي بسبب الحمل بينما المياه تتدفق عليه من الأعلى للأسفل. إنه يحب الاحتكاك بجسدي وهو مبلل. فبحسب كلامه، يصبح أكثر طراوة وحلاوة وانسيابية مثل سيارة رياضية. كما انه لا يعاملني ببرود في الحمام، على العكس من حمزة.

حمزة كان في الدوش متطرف. إما عنيف وحركي وإما تمثال من حجر. مع هذا، لم أكن أفرق بين الماء والنار معه. كانتا عيناي فجأة تمتلئ بالدموع من شدة النشوة، وأحيانا كنت أحس بأني مجرد أداة. فتاة وضيعة بلا شرف أو عفة. كان كل شيء متعلق بمزاجه. حتى طول قضيبه، ذلك الشيء الخلاب، المغطى بالكراميل، كان لا يستجيب لأكثر الحركات إثارة، طالما أن صاحبه المكرم في مزاج سيء. وهذا الأمر غير عادل. وبعد ستة أشهر، يصبح أمر بغيض. لأن كل شيء في الحياة، ليس قضيب الرجل فقط، بل كل شيء مرتبط بالمزاج حصريا، هو شيء عفن وظالم وبغيض.

في رحلة شهر العسل، أخذنا أنا وخلدون دوش خرافي لا ينسى. كنا وقتها في جزيرة جميلة وفقيرة وهادئة. ولم نكن نطيق حتى الذهاب إلى المطعم. كنا نقضي أغلب الوقت تحت الماء. وحتى عندما كنا ننتهي من فعلها، وأنشف جسمي، وأرتدي ملابسي، وأعطر مفاتني، وإلخ، كان يسحبني بما عليّ من ثياب ثم نفعلها مجددا. ربما لهذا ذكرياتي عن هذه الرحلة كلها متعلقة بالأشياء المبللة والأحياء الفقيرة الهادئة والمناظر الجميلة المحزنة. من المستحيل أن أنسى نظرات سكان الجزيرة الأصليين لنا بينما كانت تجرنا عربة صغيرة يجرها إنسان نحيل كي نرى معالم المكان ونكتشف الأشياء من حولنا. شعرت وقتها أنني كمن كانوا يعيشون في القرون الماضية، تلك الأيام التي كان فيها الإنسان عبد للإنسان. كنت أظن أن العبودية انتهت بلا شك، ولم يعد هناك ما يستوجب الحرية. لم أكن أرغب في أن يتحول شهر عسلي إلى تذكير عام بهيئة حقوق الإنسان، ولكن نشوة الدوش طارت كلها من منظر البشر ومدى رجعية التقدم الذي وصلنا إليه. الأرصفة قذرة والذباب في كل زاوية. وكانت هناك كلاب تنبح مثل الضفادع من خلف الأشجار الخضراء. تلك الأشجار التي كانت مصفوفة وكأنها عند عتبة قبر. هذا المنظر الخيالي واليومي لجمال الطبيعة في هذه الجزيرة، كان غير قادر على محو بؤس سكانها. ومن خلف زجاج غرفتنا في الفندق، رأيت كامل الاختلافات والتناقضات. أو لنقل الكثير منها. وقد تكون خاطئة، أو عجولة، لكن هذا ما رأيته. ربما لو سنحت الفرصة لي من جديد في الذهاب إلى هناك، سأقدم لهم بعض المعونات. فأنا كنت متعودة على فعل مثل هذه الأمور مع حمزة.

يملك حمزة بعص المميزات. لديه على سبيل المثال حس عال بالمظلومية. وكان يتابع بدقة وانتباه أخبار الحروب وجرائم القتل منذ أيام المراهقة. عندما كنت أسأله إن كان يتذكر موعد عيد ميلاي، لم يكن ينطق بشيء. فجأة يتحول إلى جماد. لكنك لو سألته عن الرقم الفعلي لعدد الأسنان التي يطالبون بها اليهود جمهورية ألمانيا الاتحادية، فسوف يعطيك الرقم كما هو مكتوب في السجلات الرسمية لدى جميع المنظمات الصهيونية. وكان يكره اليهود، ويحب الغجر، ويهتم كثيرا بالتفاصيل، كأنه امرأة. وكان يكره هذا الشيء فيه. ربما لأنه كان عاجز، أو لا يعرف كيف يتصرف مع التفاصيل الشخصية للإنسان كفرد، وليس كمجموعة. وهو من النوع الذي لا يتقبل الهزائم بسهولة ويقدس كثيرا التاريخ ومفهوم الأخوة والمشاع والعدالة الاجتماعية ويخصص الكثير من وقته في مساعدة الآخرين. وكان هذا الشيء يفتنني فيه، لكنه في نفس الوقت كان يضجرني ببطء.

الشهر السابع: إجازة ما قبل الولادة.

استيقظت ولم أجده بجواري. ذهب إلى العمل كعادته.

نهضت من على السرير واتجهت مباشرة لغرفة المولود القادم. صارت عندي مثل العادة أفعلها حتى قبل ذهابي للحمام. أعاين الأشياء التي اشتريناها وأفكر بحيرة في جنس الطفل مع أنني أعرف أنه ولد.

أحيانا، في منتصف اليوم، وعندما لا أجد ما أفعله، أقف على باب هذه الغرفة وأبدأ في إعطاء المحاضرات. غالبا محاضرات عن الحياة. وأتخيل ولدي وهو يرد في ملل وتهذيب: «آه صح، فعلا، أووف، حسنا، اوكي، فهمت، فهمت!»

نسيت كيف ربتني والدتي. ما أتذكره فقط هو أن أبي كان يعاملنا وكأننا من أملاكه. بما في ذلك أمي. أمي كانت تحبس الكثير من الكلام في لسانها. وكانت امرأة ذات قلب بسيط ونظيف. اهتمت بنا، وبالبيت، وضحت، أو على الأقل حاولت. على العكس من أبي. كان أنانيا. الخطأ ليس خطأه بالكامل. إن التربية التي حصل عليها كانت تحوي على القليل من العاطفة والكثير من الشوائب. هذا لا يعني أن الأنانية ليست صفة متشعبة من العاطفة. بل على العكس، قد تكون الأنانية، ولو نظريا، هي أعلى مراحل العطف والاحساس بالغير. ليست هذه هي المسألة. فالأناني قد يكون شخص عطوف للغاية، ولكن ليس دائما. كما أنها عاطفة غير مضمونة من البداية. هنا المشكلة. لهذا، كانت تربية أبي لنا غير نافعة. لأنها كانت مبنية على الخوف والقسوة، ومتمحورة حول نفسه، ومن نتاج عقده وماضيه الوسخ. كان من الواجب عليه أن يلقي ما كان يعرفه عن التربية في الزبالة ويتعلم من جديد. فنحن لم نكن نريد سوى أن نسمع منه كلمة أحبك. لكنها كانت كبيرة عليه. ويعتبرها مغازلة أكثر من كونها إشارة إلى شعور ينطوي تحته ما هو أكبر من مجرد شعور.

ربما لهذا أنا أكره الاجازات. إنها تجعلني أذهب بعيدا في أفكاري وخيالي. وربما عندما أنجب ستة أو سبعة أطفال، سيصير من الصعب عليّ أن أسترجع ما له معنى عميق. هل هناك ما هو أفضل من حياة سطحية؟ حياة يخفي فيها الإنسان كل أحاسيسه وعواطفه تحت السجادة كما يخفي شبقه، ثم يدوس عليها حتى يناهز الستين أو السبعين. الأمر راجع لك في الأخير.

الشهر الثامن / الطفل الثالث.

كان الاكتئاب هو النغمة الأساسية لحياته. عليها تتراقص عواطفه. وبأقدامه، كان يدوس على أطراف ذاته.

فرح.

لأن الإنسان، بشكل عام، كائن معقد، فمن الصعب أن أقول عن فرح أنها مجرد امرأة تافهة. ولكن يمكننا قطعا القول إنها تميل إلى العلاقات السطحية القائمة على الثرثرة أو المصلحة بشكل عام. وهي فتاة مرحة أولا وأخيرا، وتجيد الطبخ بشكل محترم بالنسبة لفتاة تنتمي إلى جيل التيك آوي وأوبر ايتس. وكانت تتقن العزف قليلا على البيانو، وايقاعها رهيب حد الخوف. ربما هذا راجع لكونها من أصول افريقية. وكان والدها يعمل في احدى الشركات التجارية في سلطنة عمان. أما والدتها، فكانت دائما في مكان آخر. مرة في مصر، ومرة في ايرلندا الشمالية، ومرة في السودان. والدتها بارعة جدا في الطبخ والنميمة وشخصيتها فولاذية لكن خرائية في المجمل. كانت تتحكم عن بعد بكامل عائلتها وكأنهم قطع إلكترونية. كانت هي العقل المدبر والعضلات وكل شيء. أما فرح، فهي بقدر ما كانت مسكينة، بقدر ما كانت خبيثة. لم يكن حمزة يطيقها، وكان يمقت أمها شر مقت. كان يقسم لي أنه سيقتلها ذات يوم في عز النهار ثم سيرمي جثتها في أعماق مضيق هرمز. وعندما كنت أقول له: ” حتى لو نجحت في قتلها، ستسجن بعدها، وستعدم، فماذا ستستفيد؟ ” كان يرد بحرقة: «لا يهم، على الأقل أكون قد خلصت كوكب الأرض من شرموطة مثلها». كنت أحترم فيه كراهيته لها وبذاءة ألفاظه. كانت كراهية وبذاءة من النوع المبرر والمحمود والمحبب والظريف. كان أحيانا يصورها في غفلة منها ثم يحلل حركاتها ولغة جسدها لاحقا وكأنه عميل استخبارات مزدوج. كان يفعل هذا فقط كي يثبت لي أنها ليزبين. لم أكن أوافقه الرأي، واختراقه لخصوصياتها كان بصراحة يزعجني، لكني عندما أسترجع المواقف التي بيني وبينها، خصوصا تلك التي تخللتها لحظات تبديلنا لملابسنا في نفس الوقت والمكان، أجد أنه مصيب بعض الشيء. فقد كانت فرح تحب ملمسي، وتمدح انثناءات جسدي ببهجة مرهفة، وتحبني أكثر عندما أتحرر من حمالة صدري، ودائما ما تحثني على الشرب. وكانت لها نظرات لا يمكن أن تكون بريئة إلا في عيون من هو غبي حياتيا أو ساذج جنسيا. أنا كنت ساذجة جنسيا، وغبية في الحياة، لكن مكابرة وصادقة وحسنة النوايا. ولولا حمزة لما كنت عرفت ماهي النشوة أو اللذة أو سوء الظنون. كنت في حالة خوف دائمة من أن يستبيح جسدي من ليس له تجارب حسية حقيقية أو من هو خاوي من الروح. وأنا، لم أكن أعرف عن الجنس إلا ما كنت أسمعه من صديقاتي أو ما شاهدته بشكل خاطف في الأفلام الرومانسية الجديدة كفيفتي شيدز أوف جراي. وقد كان هناك شبه كبير بين حمزة وبين بطل الفيلم السادي في طريقة التفكير والمعاملة. وشاءت الصدفة أن أكون أنا نفسي مازوشية ومطيعة جدا على السرير. متطلبة لكن مطيعة. أحب الألم الحنون الذي يظهر في صورة جيدة ويتركني سابحة في المتعة، غارقة في دواخلي، واضعة يدي في فمي مثل الرضيع، فاقدة للسيطرة، محلقة خارج نطاق الوعي البشري، هائمة فيما وراء الرغبة، وضائعة في غريزتي الحيوانية بشكل طبيعي إلى أقصى حد. فمع حمزة، عرفت بداية الأشياء، وعرفت النهايات. هناك حيث فجأة تنقطع السبل، ويختلف الواقع، ويسود الضباب، ويقف الوهم كحاجز بين الحلم والخيال، وبين العيش والممات.

رسائل من الماضي.

حتى بعد مرور عشر سنوات على زواجي، لا يزال حمزة يكتب ويرسل لي بعض الرسائل بين الحين والآخر. كأن كل السنوات البائدة التي فصلت بيننا كانت نسيج من الخيوط الماكرة. تلك الخيوط التي كلما أردت فكها، كلما زدت في شربكة نسيجها. لذا، من الأجدر بالمرء إما حرقها أو احالتها للتقاعد واستبعادها بأي ثمن.

الكتابة.

كانت تلك هي طريقته في ضرب جواده كي يمضي به العمر نحو ما هو أفضل. أو نحو النسيان كي أكون أكثر دقة. لكن ذاكرته بطلة، وخياله رحب، ومن خامس المستحيلات أن ينسى. أو ربما هو لا يريد فعل ذلك أصلا. خوفي من أن يصبح كهؤلاء الحمقى الذين لا يفقدون الاتصال مع من كانوا عليه في شبابهم أبدا. الحياة أجمل من دون ذكريات، في حالته. ولكن هذا غريب. أعني أن تكون حياة الواحد منا بلا شيء أو أحد. ستصبح هكذا وكأنها حلقة فارغة. كتاب بلا صفحات. بهيمة تساق إلى المذبحة. ولكن، لكل شخص طريقته المختلفة في التعامل مع مثل هذه الأمور الشائكة والمخادعة. نعم خادعة. فكل ما هو متصل بالذاكرة، هو بالضرورة سراب بداخل سراب. وحلم بداخل حلم في رأس كاتب قصص رعب أمريكي. المحاولة الدائمة واللحوحة لتذكر ما قد مضى ولن يعود أبدا يولد عدم الدقة في تشخيص الأحداث الجارية. وهذا الأمر مفهوم لي الآن أكثر من قبل، فعندما يرتبط الأمر بالحب والفقد، كل الحقائق توضع في الدرج، ويصبح الحدث نفسه غائب عن العقل، وموجود فقط في الروح، كأثر، على هيئة وشم، أو ندبة، أو ورم، أو ما شابه ذلك. الذاكرة هي الخط الفاصل بين أورام الماضي وجراح الحاضر وهي التي تحدد طريقة الشفاء في المستقبل. والذاكرة، كذاكرة، تميل إلى الخدع وتمرير ما هو محفوف بالجنون إلى داخل المخ كمن يمرر كرة خاطفة من خلف خط الدفاع عند الدقيقة الأولى من عمر المبارة. والإنسان لعبة في يد ذاكرته، والكتابة ذاكرة ثانية. إذن، يتم التلاعب بنا مرتين على الأقل. مرة في الحياة العامة، ومرة في داخلنا. بشكل سري وشخصي خفي. ونحن نستجيب بطيبة خاطر لمثل هذه الألعاب الخفية، ونغوص بأنفسنا في مستنقع المواضيع السرية المغلقة والميتة والموحشة في ليالي البرد والحنين والوحدة. ثم نخرج بقدرة قادر من داخل رؤوسنا، بمشاعر متدفقة، وقوية، كانت موجودة في السابق في قلوبنا، لكنها الآن مصابة بالتعب، والكسور، والربو، والقلق. نحن هكذا، نفتح باب واسع في رئة ذاكرتنا، كي ندخل في الأخير إلى أنفسنا من النافذة المطلة على الواقع مثل الذباب المنزلي.

نتعلم الكثير عن ذواتنا عندما نكتب إلى أحبائنا ونحن في أشد حالاتنا الانسانية صدقا ويأسا وضعفا. ونتعلم أكثر عندما نكبح الرغبة الملحة بالكتابة. فلا أظن بأن هناك شيء لا يطاله الفساد عندما يكون مقرون بالرغبة. لعل حمزة يكتب لي رغما عن إرادته. ربما هذا ما يجعل رسائله تبدو في نظري ذات وهج أبدي وذات ثقل أدبي فخم على وجداني قبل أي شيء آخر. لكن، وعلى الرغم من لطفها ووهجها، يقابلني أحيانا بعض النفور منها، بسبب كثرة التفاصيل الجنسية فيها، وحدة التعابير المبهمة، حيث أنني لم أعد أهتم بالأمور الغامضة أو الجسدية كالسابق، ولم أعد أهضمها بسهولة. كما أن الزواج غير الشيء الكثير من طريقة استقبالي للمتعة والأفكار والمعرفة. على العموم، لطالما نصحته بأن يصبح كاتب أو محرر أو ناقد ويستغل المس الكهربائي الذي في قلبه لمصلحته. لكنه عنيد، وظلامي، ويفتقر إلى الجدية، ويحتاج إلى من يؤمن به وبموهبته. ووفقا لرسائله، هو الآن أقل تطرفا، ولم يعد يستغرق الكثير من الوقت في الدوش. وقد وجد، بحسب كلامه، من هي جديرة بقلبه وعقله واهتمامه. وصار يسعى لتكوين عائلة وثروة صغيرة وليس فقط صفصفة عبارات روائية ذات ثقل ومضمون تحظى بإعجابي أو باعجاب حثالة الناس. لقد بدأ في استعمال أفضل ما يملك من أجل الحصول على ما قد يجعله سعيد في نهاية اليوم. ومن الواضح أنه نجح في أن يجعل قلبه يعيش بقرب عقله، جنبا إلى جنب، في سلام ووفاق، إلى حد معقول. ففي السابق، كان وضعه كارثي. حيث كان يضع كل ثقل قرارته على جانب واحد فقط. وربما لهذا كانت حياته غالبا مائلة. فهو لم يكن يعي قيمة التوازن والانسجام، ولم يكن يحمل أي تقدير لتجارب الغير، ويبصق في وجه الإحساس بالاستقرار بمناسبة أو من دون مناسبة. وكان يظن بأن من الممكن للإنسان أن يعيش كما يريد، سواء ضمن حياة مجتمعية مفروضة عليه، أو في عزلة اختيارية، طالما أنه في الأخير يحيا ويعيش وفقا لرغباته الخاصة. وهذا، في حد علمي، غرور، وفهم بدائي لمتطلبات الحياة الحديثة.

في المجمل، حمزة يكتب حتى يتنامى في داخله الشعور بالسكينة الروحية. كي لا ينتف شعر لحيته، أو يفقأ عين أبيه. يكتب كي يوثق تصوراته ويخفف من الالامه. وهو من النوع الذي لا يحس بالذنب أو الخجل من أخطائه طالما أنه قادر على الاعتراف بها من خلال الكتابة. ما فهمته منه باختصار هو أن الكتابة لا تأتي من الحزن العميق، ولا من الكلمات الرنانة في القواميس العتيقة. ولا هي نتاج طلب أو احساس يمكن استحداثه من العدم. وهي لا تتقاطع دائما مع مستوى ذكاء الكاتب أو غبائه. إنها بكل بساطة فن. فن التخلص من مرض الكبت والقيود.

ماجد.

إياك أن تفعلها . .